(وقت القراءة: 1 دقيقة)

 

نشرت في مجلة البيان الصادرة عن رابطة الأدباء الكويتيين. العدد 565 أغسطس 2017، صفحة 33-36.

لتنزيل العدد كاملا.

رواية "كاللولو" لـ"حياة الياقوت": مدونة الطفولة والبراءة

بقلم: سمير أحمد الشريف

فن السرد، ركيزة هامة لمنظومة الثقافة العالمية والعربية، والمعبّر  الصادق عن أنوائها  ووقائعها العامة والخاصة، حتى صار من البدهي القول، أننا نحيا عصر الرواية، التي أصبح نموها لافتا، إن على مستوى التأليف أو النشر أو كثرة الجوائز المخصصة لهذا الفن المدهش.

كويتيا، يُلاحظ المتابع تنامي وازدهار السرد النسائي - إن جاز لنا هذا التوصيف – خلال العقدين الأخيرين.

قبل الدخول لأي نص على المتلقي أن يقف على عتباته، مستشرفا آفاقه التي تمنحه الخصوصية وتضيئ أركانه.

 غلاف الرواية بخلفيته السوداء الذي تتناثر فوقه بقع من ألوان شتى يغلب عليها لون الدم، ومكتوبة حروفها بالأحمر  واسم الكاتبة باللون الأبيض، بما يحمل كل لون من دلالات وإسقاطات  وإحالات ، تمّثل فيه هاتيك البقع متعددة الشكل ودرجة اللون ، تبديدا  للسواد الذي يحتل اللوحة زارعا بذور الأمل، مع بروز ووضوح  الثاني من أغسطس/ آب، بما يشير إليه من مناسبة  تُحيل  لكل ما هو مؤلم، أما عنوان الرواية (كاللولو)، فمضمخ بإحالات كثيرة ليس أقلها النقاء  والبراءة،  والأمل الموشوم على حدقات الطفولة، الحالمة بكل ما هو ثمين  ونفيس، مهما حاولت الأيام أن تهدم جُدر الحلم في طفولتنا، فإذا ما تقدمنا خطوة تجاه الإهداء -العتبة الهامة الأخرى-  الذي يرشح إحساسا بالغربة  وربما غياب الاهتمام، " أماه، لأن الحياة بك أجمل"، استشرفنا قسوة الحصار الذي يملأ على الكاتبة وجدانها، وهروبها من الآلام وقذارات الواقع تجاه حضن تلتمس فيه السكينة والملاذ والأمان. 

ينهض النص الذي يوظف ضمير المتكلم بكل ما فيه من حميمية القرب من المتلقي، والذي يوهم بتماهي السارد مع المؤلف، وبواقعية التجربة المكتوبة، على ولوج باب غير مطروق في أدبنا العربي المعاصر /الطفولة / التي تشكّل بطولة النص  الذي ينهض على خطين سرديين، تمثل أولهما بما تحكيه البطلة الطفلة، وثانيهما على مذكرات بابا جاسم، بما يشرحانه ويوحيان به من عوالم، وذكريات، ومواقف، بلغة وتعابير  رصينة جميلة مشوقة، تمتح من بئر الطفولة  وتقف بنا على  مكنوناتها، راسمة  من خلال ذلك ملامح المجتمع، راصدة مفردات حياته اليومية، بسرد درامي شيق، موثقا بذلك لفترة ثمانينيات  القرن المنصرم، في البيئة الخليجية،  والكويتية على وجه الخصوص، مُعريّا الواقع، مضيئا للمسكوت عنه، مُبحرا في عوالم الكبار برصد ما يرشح من سلوكياتهم، ويرتسم على صفحات عقول صغارهم، ويختزنه وعيهم وتسجله عيونهم، بحنين باذخ للطفولة، الأمر الذي يشي بفقدان الساردة لحميمية التصالح مع الواقع وهروبها من جحيمه لماضي الذاكرة.

يلفت في النص ثراء معرفي، (الشاعر مارون عبود الذي سمى ابنه محمدا، و المستشرقة الألمانية سيكرد هونكة في كتابها " شمس الله تسطع على الغرب )، ويلفت  أيضا استخدام النحت اللغوي والتلاعب بالألفاظ، الذي يشي بالنقد والتهكم حينا وبالفكاهة أحيانا :(حليق الرأس والرمش /التكويت والبسكويت/ديمقراطيسية / متنوخذ/ تصبرت وتربصت/تغطس تغطش/)، و يستوقف المتلقي أيضا  توظيف التراث، قرآنا وحديثا نبويا (لاغول فيها ولا لغو/ هذا تأويل رؤياي/أرحنا بها يا طلال/استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان/ ثم القيته في اليم/ سقيت أملي أملا وأخفيته في تابوت)، زيادة لتوظيف  النص باقتدار، الأغنية الشعبية والأهزوجة والتمثيلية، مستفيدا من توظيف الصور الحقيقية لخط اليد  والأوراق ودفاتر اليوميات  وتقنية الرسائل والمذكرات بطريقة الكولاج.

يُسجل للنص إيجابية صورة الأب  المتفاني، خلاف النمطية التي أظهرته بها الكثير من السرديات النسائية المتحاملة، و انتصاره للمرأة المكافحة المؤمنة برسالتها ودورها ، تحضر هنا بجلاء شخصية الدكتورة " استقلال "  بكل مواضعاتها الشخصية والنفسية والرمزية، عندما تشق طريقها، مؤمنة بدورها ورسالتها  وإيمانها بقدراتها، مهما تكلم عنها الناس،  فللحقيقة وجه واحد  ستظهر حقيقته الأيام...، ولعل مما يستحق التنويه، أن الكاتبة قد كسرت توقعاتنا بعد أن مهّدت عبر أكثر من موقف،  أن ثمة علاقة تربط والدها بالدكتورة  "استقلال"، بما يحمل من  نفس درامي، وتشويق بديع، وذكاء  أمسك بتلابيب المتلقي، حابسا انفاسه حتى وصل نهاية لم يتوقعها ، مما ذهب الظن به بعيدا " لم يجب أبي، وأخذ يسعل. لم يكن يسعل ليتهرب مني، فنوبات السعال هذه تزوره أكثر من مرّة في السنة. كان يكابر ويأبى أن يتذمّر. لماذا على الرجل أن لا يشتكي، وأن لا يمرض، وأن لا يتألم، وأن لا يبكي؟ إنسان غامض، هذا السعال الغريب، وتلك المكالمات السرية التي ضبطته متلبسا بها أكثر من مرة. أبي يخفي الكثير تحت سطح نفسه.

تفيق الساردة من غيها وتثور على شكها بوالدها والدكتورة "استقلال " معلنة  ندمها وتوبتها....كم كنت ظالمة يوم ظننت بك الظنون... سأجعلك مثلي الأعلى، سأكونك عندما أكبر رغم السهام التي سوف تطالني.

هل يترسب في وعي الساردة مثال الدكتورة استقلال وترى فيها طموحها ومثالها   ولكنها تخشى الا تكونها خوفا مما ينتظرها من الواقع والمحيط والبيئة ؟

...هكذا المرأة اللامعة، مهبط للنبال والنصال والحبال، هكذا حال أي امرأة عظيمة تصر أن تنجح أسريا ومهنيا، امرأة تحطم افتراضاتهم، وأسوارهم، وتوقعاتهم المجدبة. امرأة تقول للمجتمع «أنت مخطئ»، لا بد أن تُعاقب! ص 259.

ربما يرى المتلقي في فصل ريح السموم خروجا مفاجئا عن خط الرواية المكرسة للطفولة وذاكرتها وذكرياتها، وربما يستغرب من مرور الرواية  العابر بثيمة اجتياح الكويت، دون أن يقف على مفاصل وإرهاصات الحدث، على الوطن والإنسان، ولعل عذر الكاتبة  الذي يمكن قبوله، أن النص مكرس لعالم الطفولة  فقط، وقد رصد آثار الاجتياح على الطفولة ووعيها، بمستويات وأشكال متباينة، ناهيك أن السرد النسائي الكويتي بشكل خاص قد افرد للاجتياح روايات  مستقلة فلم تشأ الكاتبة أن تكرر ما تم تناوله، يحضر هنا تمثيلا  لا حصرا : فوزية شويش، علياء كاظمي، بثينة العيسى  وخولة القزويني.

لم أر من داع  للمقدمة   التي قدّمت الكاتبة نصها به، فالمتلقي أصبح شريكا للكاتب في تفكيك النص، الذي أمتعنا بمعايشة أجواء الطفولة وعفويتها، خاصة تلك اللحظات الاحتفالية، سواء في طقوس ليلة العيد ، أم في غيرها، ورغم وجود  بعض وعظ و مباشرة  ص 71، فذلك لا يخفي وعي الكاتبة بالاتجاهات المعاصرة للسرد وتوظيفها أساليب فنية كثيرة، حملت مضامين النص الذي كشف المتغيرات التي اجتاحت المجتمع، على مستوى  انقلاب العادات والقيم، وتغوّل نمط الاستهلاك، كما عكس النص أن "حياة الياقوت" كاتبة متعدة المواهب والاهتمامات،  بين النشر الورقي والإلكتروني، وتخصص علوم السياسة،  والانشغال بقضايا اللغة ، وعلم المكتبات والمعلومات،  والمساهمة في حقل أدب الأطفال ، وقد نجحت في خوض غمار عمل سردي مارست به طرائق من التجريب الفني المدهش.