(وقت القراءة: 1 دقيقة)

هناك مَن يفهم تعويد الأطفال على المساجد خطأً. إحضار الصغار جدا إلى المسجد في رمضان لن يجعلهم يتعوّدون عليه وعلى الصلاة، بل سيجعلهم يكبرون ظانّين المسجدَ ملعبا. ومن ناحية أخرى، فأنّ إحضار الصغار إلى المسجد ثم تصميتهم ونهرهم كلما أحدثوا جلبة، تجربة سيئة ومنفرّة للأطفال، تجربة قد تجعلهم يكرهون المسجد في دخيلتهم، ويرونه مكانا للقهر والمنع والقمع. 

عتبة الانزعاج بين الناس تختلف. وكونك تقدر على التركيز والخشوع في ظل صراخ صغارك أو حركتهم الدائمة، لا يعني أنّ جميع من في المسجد لديهم هذه القوة الخارقة. وكونك تستملح قفزاتهم الظريفة وأصواتهم اللطيفة، فهذا لأن "الكذا" في عين أمه غزال! وهو أمر لا ينطبق على بقية المصلّين بالضرورة.

 

وأنا هنا لا أتكلّم عن صلاة الفريضة، حيث قد يصدف أن يأتي وقت الصلاة ومع الأب أو الأم أطفالهم، فيدخلون للمسجد للصلاة، ولا أتكلم عن الأطفال فوق سن التمييز الذين يمكنهم الوقوف بخشوع في الصف، أو على الأقل الجلوس بهدوء. أتكلم عمن يصطحبون أطفالهم الصغار لصلاتي التراويح والقيام في رمضان. 

صلاتا التراويح والقيام سُنة للرجال والنساء، ويُمكن أن تُصلّى في البيت أو في المسجد، و"صلاة المرأة في بيتها أفضل" كما جاء في الحديث الصحيح. فما بالكم إذا كانت ترعى أطفالا ... أطفالا مزعجين. وقمة الأنانية أن تزعج امرأة ما عشرات -أو مئات- من النساء حتى تستمتع حضرتها بأجر صلاة الجماعة، وتستمع لقراءة الإمام الندية. عدم صلاتها في المسجد تتضرر منه هي وحدها (على افتراض وجود الضرر)، لكن صلاتها في المسجد تتضرر منه كثيرات. والقاعدة الشرعية تقول "لا ضرر ولا ضرار". كما أن اختلاط صوت قراءة القرآن بموسيقا اللعبة المرحة التي يلعبها الطفل على الهاتف أو الآيباد (والذي يرفع صوت الجهاز بمجرد أن تغفل أمه) امتهان لحرمة القرآن. وإحضار رضيع في قِماطه قد يُحْدِث في أي وقت أجلّكم الله، لا يليق بمكان طاهر تشهده الملائكة. صحيح يُفترض أن يكون المسجد مهوى الأفئدة، وجامعا للناس، لكنه هذا لا يعني ألّا تكون له هيبة أو حُرمة.

وأظن الحاجة ملحّة لصدور فتوى رسمية لا مراوغة فيها بتحريم (نعم، تحريم!) إحضار الأطفال تحت سن السابعة إلى صلاتي التراويح والقيام في المساجد التي لا يوجد فيها أماكن مخصصة لهم. أمّا من يحتجّون بحادثة صعود الحسن أو الحسين -رضي الله عنهما- على ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة، فقياسهم باطل. فواضح أنّ الحادثة عرضية، إذا لم يعتد أن يحضره معه دائما، بل البادي أنه لظرف ما أحضره، كما أنه كان طفلا منفردا، فلم يحضر ثلة من الصحابة صغارهم وتركوهم يجوسون في المسجد يصطخبون ويلهون. ثم إن هذه كانت صلاة فريضة، لا صلاة نافلة في رمضان، يأتي الناس لينصتوا لقراءة قرآنية مطوّلة، ويلزمهم الخشوع للدعاء في مواطن السجود، والطمأنينة ليفقهوا ما يقول الإمام في دعائه ويؤمّنوا عليه.

حسنا فعلت وزارة الأوقاف حين خصصت في بعض المساجد الكبرى قاعة خاصة للأمهات اللاتي يأتين برفقة صغارهن. لكن هيهات، هيهات! صليت هذا العام في أحد المساجد المكتظة نظرا لحلاوة صوت الإمام بارك الله فيه. ولشدّة الزحام، كانت النساء يصلين حتى في المدخل، والممرات، والمساحة تحت الدرج، وقد خصص المنظمون خيمة مكيّفة في الخارج للأمهات اللاتي يأتين مع أطفالهن. وشاء الله في إحدى الليالي، ولشدة الزحام، أن أصلي القيام في المدخل القريب من الدرج، وبجانبي امرأة أحضرت ابنتها الكبرى، وابنتيها الصغيرتين جدا اللتين احتلتا مساحة لجلوسهما (أو للعبهما بمعنى أدق!) مساحة كانت تكفي لامرأة أو اثنتين. اقترحت عليها بلطف أن تذهب إلى الخيمة لأن معها أطفالا، لكنها رفضت لأن الخيمة غير نظيفة. سكتُّ عن الأمر. وبعد المعزوفات التي سمعتها، والعروض البهلوانية التي شهدتها في أول ركعتين، نبّهت المشرفة إلى الأمر. فطلبتْ منها الذهاب للخيمة، خاصة أن النساء يأتين بحثا عن مكان ويخرجن يائسات، وهي احتلت مساحة لا تحق لها. لكنها تجاهلت الأمر وكبّرت للصلاة. جاءت المشرفة بفكرة ألمعية فاندسّت بيني وبينها لتؤدي الصلاة مبينة لها أنها تحتل مساحة يمكن لمصلية أن تقف فيها. طبعا استمرت العروض البهلوانية -وإن كان في رقعة جغرافية أصغر- وحين ناهز صوت الطفلتين صوت الإمام، صفقتُ بيدي بضع صفقات عاليات أسكتتهما لبرهة، ثم استأنفتا نشاطهما الترفيهي المعتاد! وحمدا لله أن الأم احترمت ما تبقى من كرامتها ونزلت للخيمة، بعد أن مرّت ٤ ركعات، لا أتذكر ما قال الإمام فيها، ولا أستطيع أن أدعوَ في سجودي.   

ماذا يخبرنا هذا؟ يخبرنا أنّنا قوم أنانيون على عكس ما يأمرنا الإسلام بأن نحبّ لإخوتنا ما نحبّ لأنفسنا، وأنّنا لا نلتزم بالقانون إذا لم يكن وفق هوانا ومصالحنا وهذا أيضا عكس أمر النبي -صلى الله عليه وسلّم- الذي أمر بـ"السمع والطاعة فيما أحبّ وكَرِه، إلا أن يُؤمر بمعصية"، وأنّنا نحرص على العبادة، ونضرب بالأخلاق عرض الحائط. ثم نأتي بعد هذا كله، ونحكّ رؤوسنا مفكّرِين متعجبين: "لماذا لا ينصر الله أمتنا؟"