(وقت القراءة: 1 دقيقة)

alnuwair (نُشرت في جريدة الراي، عدد الثلاثاء 28 مارس 2023، صفحة 19.)

هذا ربيع النُّوّير بلا منازع. ترى هذه الزهور الصفراء تمتد في المساحات التي كانت يوما ما فضاء خاليا من الحياة والبهجة. النُّوّير ليست مجرد أزهار، بل رمز لشتاء كان مدرارا، وربيع يبشّر بالجمال، في أرض يعز فيها المطر، وتصير الزهور شيئا يستحق الاحتفال.

في الصيف الماضي في بريطانيا، لاحظت انتشار زهرة تشبه النُّوّير كثيرا وكأنها هي، على الأقل لعيني غير الخبيرة في شؤون النباتات. كانت مثل النُّوّير، بريّة وعشوائية ... وجميلة. وفي يوم رأيت البستاني الذي يتعاهد الحديقة، فحاورته عن موجة الحر، وتأثر النباتات بها، وذكرتُ له هذه الزهرة المناضلة التي أنتبه لوجودها لأول مرة. وقلت له أنها تشبه أو لعلها تماثل زهرة ربيعية جميلة لدينا في الكويت. فضحك وقال لي: "هذه عشبة ضارّة!" صُعقت لقوله، كيف يمكن لزهرة جميلة كهذه أن تكون عشبة ضارة؟ عاجلني قائلا: "آسف، لكني مضطر لإزالتها وإلا ستنتشر وتمنع العشب من النمو." وأخذ يقتلعها من جذورها بمنتهى البرود.

جعلت أفكر في أمر هذه الزهور البهيجة. كيف يمكن لشيء جميل كهذا، أن يكون مجرد عشبة استعمارية ضارة، تغزو الحدائق، وتحتل مواطن العشب، وتمنع الحياة عن بقية النباتات؟ قد لا تكون الزهرة التي رأيتها هناك هي زهرة النُّوّير المعروفة لدينا، لكنها تشبهها كثيرا. عجبا للضرر، كيف يتخفى أحيانا في ثياب الجمال. قد نؤخذ بشيء ونحبه، وفيه الضرر، كل الضرر. ومن هذا قول الأديب الرافعي: "ليس كل ما يعجبك يرضيك، ولكن كل ما يرضيك يعجبك".

اللافت أن هذه العشبة الضارة ليست ضارة بالمطلق، فقد رأيت النحل ينهل من رحيقها. ويبدو أن الضرر مسألة نسبية، فهي ضارة بالنباتات الأخرى خاصة العشب، وضارة بمصالح الإنسان الذي يريد حديقة لها هيئة معينة، لكنها نافعة وصديقة للنحل. والضرر والشر من ثوابت الحياة. فهذا الكون مخلوق في ثنائيات، ولا يجوز للخير أن يتفرّد بالمشهد، وإلا اختل ميزان الكون. فكل شيء له وظيفة في الحياة، حتى أبشع الأشياء. فالخنزير مثلا كائن مستقبح، لكن له دور سيختل من دونه التوازن البيئي. وهذه النويرة الضارة نسبيا، لها أدوار أخرى ستختل الطبيعة دونها. و"مشكلة الشر" التي تؤرق الكثيرين وتقودهم إلى الإلحاد هي في جوهرها تطلب عالما خاليا من الشر والألم، وهذا غير متأتٍ في هذه الحياة الدنيا.

يرتبط الجمال بالندرة، وتقتله الوفرة. فلو افترضنا أن زهرة النُّوّير لدينا كانت -كابنة عمها الإنكليزية- عشبة ضارة، فما كان هذا -والله- ليمنعنا من الاحتفال بها. فندرة الزهور في بيئتنا تحملنا على الاحتفاء بأي زهرة، والاحتفال بأي معالم للخضرة. ونجد هذا جليا في موقفنا النفسي تجاه المطر النادر لدينا. فنحن أمة تستقبل المطر بالدعاء، ونسميه بالغيث. المطر كائن مدلل منتظر. وحتى في ثقافتنا المحلية، نجدنا في الكويت مثلا نهزج الأهازيج للمطر، نغني "طق يا مطر طق، بيتنا جديد، مرزامنا حديد". وحينما نستقصي الوجدان الجمعي للإنكليز تجاه المطر، نجده في الطرف الآخر. فالطقس الجيد هو ذاك المشمس، والسيء ذلك الذي يداخله الضيف الثقيل عليهم وشبه الدائم؛ المطر. المطر يشكل لديهم منظومة من الوفرة المفرطة، والإنسان من طبعه أن يزهد في ما توفّر. والمطر لدينا يشكل منظومة الندرة، والإنسان يتعلق بالبعيد الصعب. وإنْ ندري، فمع التغير المناخي الحاصل، قد نجد الإنكليز يوما -وقد شح المطر عندهم- يستعيرون أهازيجنا، ويغنون للمطر! وهكذا، تمكنت زهرة النوّير وشبيهتها أن تمنحانا درسا في فلسفة الجمال وبواعثه.

نسخة نصية من المقالة من موقع جريدة الراي || نسخة PDF من المقالة