(وقت القراءة: 1 دقيقة)

يالَهذا الواقع المُوجع العديم التهذيب! هذا الواقع نفسه هو مَعْجَن الكاتب؛ منه يستمد حكاياته، وبسببه يكتب. ولأن هذا الواقع لا يخلو من أمراض، ولأنّ جمال الواقع ليس سببا كافيا للكتابة دوما، لا بد إذًا من استفزازٍ يحرّك مياه الكتابة العزيزة. ويمكن لمنظر جميل أن يلهم لوحة أو قصيدة، لكن حين الحديث عن كتابة  معرفية فكرية تثير الأسئلة، وتنزع الأعشاب الضارة، فإن الجمال ليس محفزا رئيسا للكتابة "التثويرية"، لأن الكتابة عن الجمال والاتساق احتفال واحتفاء وقتي بلحظة، بومضة، بعارض يعرض على الواقع. أما الكتابة التأصيلية، فمحركها الرئيس استفزاز، قد يكون على شكل تقزز من الواقع أو غضب منه، أو خوف، أو قلق، أو دهشة، وفي بعض الأحيان القليلة انبهار بجمال فائق.

السؤال هنا، كيف يمكن للكاتب أن ينقل هذا الواقع المريض ويعرضه؟ لا يمكن قبول التجميل هنا، وأي تزيين هنا هو تزييف لا محالة، فالأديب ليس مزيِّنا أو خبير "مكياج". لكنّه أيضا ليس صحافيا ينقل الخبر بدقة وتفصيل، فالأديب ليس كاميرا!

وهنا يمكن أن نتفذلك كثيرا، وننظّر، وندبّج، ونتشدق بالماينبغيات، والمفروضات، والمأمولات. سنثرثر كثيرا، وسيُودي الواقع المريض في أثناء ذلك بضحايا كُثر. لكنْ لا بد أن نحسم الأمر، ونرسم خريطة الطريق، ونعثر على الملقط المناسب لاصطياد جرثومة الواقع الموحل، وعرضِها على القارئ دون أن يتسخ أي الطرفين –الكاتب أو القارئ- بها.  

سورة يوسف

ستسألون: أَيوجد مثال عمليّ على "قصة" ما نقلت الواقع المريض كما هو، لكن كي تنسفه لا كي تؤسس له؟

اللهم نعم. سورة يوسف، وتحديدا قصة يوسف -عليه السلام- مع امرأة العزيز غفر الله لها.

هنا، نجد مثالا على تصوير حقيقي لما حدث، دون أن يتحول الوصف إلى وسيلة من وسائل التطبيع مع الواقع القذر. وهنا عليّ أن أنوّه أني لا أعامل سورة يوسف أنها نص أدبي لا قدر الله، فهي نص فوق أدبيّ، نص سماوي عُلويّ، قرآن يتلي، قصة من أحسن القصص، شيء يتعلم من الأدباء ولا يضاهئونه.

لكن كيف؟ كيف أمكن نقل الواقعة البغيضة بأمانة لكن بحياء؟ والأهم من هذا، كيف لمْ يتأثر بناء القصة بذلك؟

أما كيف حدث، فحدث -يا رعاكم الله- من خلال اللغة. اللغة بقدراتها العظيمة ومرونتها وبلاغتها وقدرتها على الإيحاء والتكنية. واللغة لازم أصيل للأدب. فاللغة المباشرة مُهمة في حقل العلم التجريبي، أو الطب، أو القانون. لكن لماذا –بربكم!- يريد أحد أن يستخدم هذه اللغة المباشرة والفجّة في كتابة عمل أدبي، يفترض به أن يسعى للجمال، على المستوى اللغوي على الأقل؟

في سورة يوسف نجد ذكرا مباشرا لمشهد التحرش الجنسي، لكن رب العزة قصه علينا بلغة تليق بجلاله، وتليق باسمين من أسمائه الحسنى البديع والحيي. "وإن الله حَيّيّ، يكنّي بما شاء عمّا شاء" كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. وإذا كان الإبداع تَخَلُّقٌ بصفات الخالق البديع كما يقال، كيف يرفض المبدع التخلق ببقية صفات الخالق، وتحديدا الحياء؟

والحياء الأدبيّ لا يعني المواربة، أو التزييف، أو الخداع. ولا يعني أيضا التلغيز بغرض تشويق القارئ أو استفزازه. غرض الحياء الأدبي أن يُقال كل شيء، لكن بطريقة تبحث عن المقصّد والتأثير الذي يراد للقارئ أن يخرج به بعد قراءة النص الأدبي. أما أن يأتيك أحد أصابته موجة مُفرِطة من الديموقراطية، ويقول أنه ليس له غرض سوى تصوير الواقع والباقي على القارئ، فمثل هؤلاء يجب إرسالهم إلى كبار المصانع، ليحولوهم إلى آلات تصوير وآلات نسخ ملوّنة، فهذا أجدى، وأنفع، وأوفر!

على الأدباء أن يسألوا أنفسهم: "هل نريد عنبا أم نريد رأس الناطور"؟ هل نريد أن نصِف في أعمالنا حدثا بشعا في هذا العالم لنعرف ما حدث، ونقف منه موقفا مبدئيا وأخلاقيا؟ أم لكي نعرف التفاصيل التفصيلية للحكاية، وكأننا عُصبة تافهة في جلسة نميمة وهذر؟ 

 

تحليل الآيات:

فلنتوغل أكثر في واقعة التحرش الجنسي الواردة في سورة يوسف. ماذا قال الله تعالى عما حدث، وكيف قاله؟ ورد المشهد في 3 آيات:

{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (سورة يوسف: 23-25)

 

(1)

وصف الله تعالى محاولة الإغواء بالمُرَاودة، "راودته عن نفسه". الكلمة نفسها وردت في السورة نفسها {... سنراود عنه أباه ...}، إذا الفعل بحد ذاته فعل محايد يعني طلب مع نقاش وإلحاح وحث. جاء في لسان العرب: "راوده أَي أَراده على أَن يفعل كذا".

"وفي حديث أَبي هريرة: حيث يُراوِدُ عمَّه أَبا طالب على الإِسلام أَي يُراجعه ويُرادُّه؛ ومنه حديث الإسراء: قال له موسى، صلى الله عليهما وسلم: قد والله راودْتُ بني إِسرائيل على أَدنى من ذلك فتركوه." (لسان العرب).[1]

إذًا، أصل الفعل الطلب، واختار الله تعالى كلمة لها معنى يفيد الغرض، لكن يوحي ويكنّي. فهي طلبت نفسه، (راودته عن نفسه)، والمقصود جسده وليس نفسه تحديدا، لكن الله كنى عن وظائف الجسد بالنفس. وهذا تعبير يستحق الانتباه لإيصاله المعنى دون تنبيه السامع إلى حقارة الفعل.  

ونجد هذا التعبير يتكرر حتى في حديث امرأة العزيز، حيث استخدم الله تعالى مصطلحاته هو لا مصطلحاتها هي. فالاقتباس هنا "اقتباس بتصرف" إذا جاز التعبير، وليس نقلا حَرْفيا. فلا أظن أبدا أن امرأة العزيز قالت {... ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ...} تحديدا. فلا لا يعقل قياسا على سياقها النفسي والأخلاقي أن تقول عبارة مهذبة موغلة في لطف الكناية مثل {... ولقد راودته عن نفسه ...} لصويحباتها، ولا أن تقول { ... فاستعصم ...} وكأنها تدين نفسها! بل لعلها قالت "عاند"، "رفض"، "ادّعى العفة" ... إلخ أما كلمة {... فاستعصم ...} فتدل على التجائه إلى الله تعالى من عدوانها واعتصامه به، كلمة لا يعقل أن تستعملها ضد نفسها في حضور النسوة التافهات في مجلسها.

وقد ورد مثل هذا في القرآن الكريم:
{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (سورة النساء:141)

فالكلمات هنا ليست منقولا حرفيا من لسان المنافقين، إذ لا يستقيم أن يسمي المنافقون المؤمنين "مؤمنين" وهم يتحدثون مع الكفار عنهم! بل لا بد أنهم يستخدمون لقبا آخر، لقبا يأبى الله أن يستعمله، ويلوّث أذن السامعين به.   

إذا، لقد استبدل اللهُ تعالى بكلمات امرأة العزيز الفجة، كلماتٍ أرقى. وهنا سيبرز دعاة الواقعية، وسيقولون: كيف لا ندع الشخصيات تتكلم بلسانها؟ فهي مجرمة ولغاتها وتعابيرها تعابير مجرمين. والأصل في الأدب أن يتكلم المجرم كالمجرمين، والأمير كالأمراء، والعبد كالعبيد، والمرفّه كالمرفهين. وإلا، كيف ينجح الأدب في نقل الواقع حيّا غضّا للقارئ؟

وهنا أقول أن الكاتب هو السيد، وهو المخرج، وهو الذي يقرّر أن يمنح الشخصيات الواقعية التي يراها مناسبة. فليس المقصد من الأدب التصوير الحرفي للواقع (هذه مهمة قناة ناشونال جيوغرافيك!) بل تصوير ما يلزم ليوصل رسالة ما. وهذا التصوير الأدبي يبيح بل يتطلب من الأديب أن يعدّل في تعابير الشخصيات ليوصل الفكرة العامة، بدلا من التمسك الأحمق بالنقل الحرفي. وإلا، فإن الأديب يحذف كثيرا من الأحداث، ويلعب في الترتيب الزمني الطبيعي للأحداث، فيقدم زمنا على زمن، ويرجع بالقارئ إلى الماضي، وبعض الكتاب يبدأ قصته من نقطة النهاية، وبعضهم يبدأها من العقدة. أليس كل هذا كسر للواقعية؟ لماذا لا يعترض أحد على تقنية الاسترجاع (فلاش باك) إذا؟ عُدوا "تجميل" المصطلحات البذيئة تقنية أدبية من اليوم فصاعدا!

مثال من الأدب:

وما أطلبه ليس بدعة أدبية. وإذا أردتم مثالا، فالأديب التركي عزيز نيسن في روايته "يحيى يعيش ولا يحيا" استخدم في بعض المواضع أسلوبا قريبا، حيث لم يضع ما قالته الشخصية، بل نقله بلطف على لسان الراوي. علما بأن الرواية تدور في سجن، ولكم أن تتخيلوا قلة بل انعدام التهذيب في الحوارات التي تدور بين المساجين. لكننا نجده في موضع يقول "فشتمني شتيمة لم تتحملها رجولتي". ما هي الشتيمة؟ لا ندري بالضبط، لكن ليس بالأمر الصعب أن نحزرها لو كان الأمر يهمنا. ولو كان قالها بنصها، لأزعجنا بعبارة قبيحة معظمنا يخجل من قراءتها بصوت عال. وفي موضع آخر نجده يتحدث عن سجين، فيقول "فشتمهم شتائم لم توفر الأمهات والأخوات." فرق كبير بأن يقول الشتيمة كما وردت على لسان قائلها، وأن ينقلها بهذه الصيغة الموصلة للانطباع المطلوب. طبعا، في مواضع أخرى من الرواية اختار أن ينقل بعض الشتائم الفجة كما هي، وهذا شأنه. لكني أضرب هذين المثالين من روايته لأؤكد لكم أن الأديب إذا أراد، يمكنه أن ينقل واقعا في منتهى قلة الأدب، بشكل يوصل المعنى دون أن ينشّز على القارئ بوحل الفحش.

 

(2)

القضية الثانية في هذه الآيات من سورة يوسف هي الحذف من الأحداث، والتكنية عنها بعبارة عامة هي "ولقد همّت به". فواضح أنها فعلت فَعْلَات، فلم يجد يوسف عليه السلام حلا سوى الهرب منها. ماذا حدث؟ ماذا فعلت؟ غير مهم! "ليس كل ما يعرف يقال"، ذكر هذه التفاصيل نحر للحياء! مجددا، "هل نريد عنبا أم نريد رأس الناطور"؟ هل نريد أن ننقل ما حدث لحظة بلحظة في بث حي ومباشر، أم نريد الزبدة لأنننا نريد أن نقفز من هذه القصة للخروج إلى قضية أكبر ورسالة أكبر وموقف أخلاقي؟

ومجددا نجد التعبير "همّت به"، وهنا أيضا نجد اللفظة انزاحت عن معناها الأصلي لتعبّر عن معنى آخر، معنى فج وغير بريء. همّ أي عزم، عزمت ماذا؟ معروف ماذا عزمت. هنا الكلمة عامة، توصل المعنى الواضح من السياق، دون الانحدار والإيغال.

لو أنّ أحد أعضاء جوقة والواقعية الوصفية قيّض له إعادة كتابة المشهد سردا، فبحجة الواقعية سيضيف التالي:

- طبعا كي نغوص في عمق الشخصية، سيصور لنا أحلام يقظة امرأة العزيز مثلا.

- سيصور لنا "ولقد همّت به" تصويرا دقيقا بكل دقائقه.

- سيستخدم الألفاظ كما وردت بالفعل على لسان امرأة العزيز، ولن يحاول تهذيبها.

سيقول قائل: ولماذا المواربة؟ لماذا لا نقول ما حدث بصدق؟ لماذا نستخدم تعابير جميلة لأفعال قبيحة؟ هذا الواقع أيها النَّعام الدافن لرأسه!

أقول –مع اعتراضي على الخطأ المعلوماتي فيما يتعلق بدفن النعام لرأسه جبنا- أقول لا نفعل ذلك لأننا سنعوّد السامع/القارئ عليها، فتغدو عادية. لأن هذا يعني التطبيع، يعني أن نفقد شهقة الصدمة والقرف التي تثيرها الرذيلة، يعني أن "نستصخر" أمام الخطأ، يعني أن لا يثير فينا غضبا أو قلقا. مثل سكان المدن التي تمر عليها الحرب، فيصير عندهم مناعة من الموت لكثرة تكراره عليهم. فما يعود لسيرة الموت ولا لمنظره الوقع الذي يثيره في نفس الإنسان "الطبيعي". نحن هنا نصنع نفسيات مشوّهة بحجة الواقعية، وهذه النفسيات سيكون عندها قابلية أكثر من غيرها ليس فقط لتقبل وتغاضي عما تعودت على سماعه أو رؤيته أو قرائته، بل لفعله! جزء من روادع الإنسان "رهبة" الرذيلة. هذا الإحساس أنه فعل شيئا كبيرا وشنيعا، لكن حينما يكثر الأمر ويعتاد عليه سـ"يضيع الأبتر بين البتران" كما يقول التعبير الشعبي! ألم تقل العرب، "أجرأ الناس على الأسد، أكثرهم له رؤية"؟

رغم توبة امرأة العزيز، تخرج من السورة قد سقطت هذه الإنسانة من عين السامع. ناهيك أن تفكر إحداهن في محاكاة من فعلت حتى من باب الفضول أو الطيش. لكن هذه الواقعة، لو قصت بعبارات أخرى، لربما حرضت البعض على محاكاتها إذا توفّر سياق قريب. مثل تلك الأفلام التي تزعم أن تحذر من ظاهرة ما، وإذا بها في النهاية تعلم الذي لا يعلم أن يفعل مثل ما يرى. ثم نصيح "ألا ليت، ألا ليتَ"! وفروا صياحكم أيها "الألاليتيون"، أياديكم أوكت، وأفواهكم نفخت، وأقلامكم كتبت.

مثال من الأدب:

سيقول قائل، هذا خاص بالقرآن. وللأدب قواعده التي تمنع هذا القدر من الحذف. حقا؟ ماذا لو جئتكم بمثال لأحد وراد المدرسة الواقعية؟ نجيب محفوظ في مجموعته القصصية "الشيطان يعظ" وفي قصة "الرجل الثاني" تحديدا، نجد أن الأحداث تحوي جريمة اغتصاب. وهذه الجريمة جوهرية في الرواية، وليست كما يفعل بعض الأدباء الذين يضعون مشاهد غرف النوم لحشو رواياتهم، أو اللعب بهرمونات المراهقين، أو لاستفزاز الرقابة كي تمنع كتابهم وتمنحهم الصيت. هذه الواقعة تحدد بقية أحداث القصة، وإلغاؤها يعني نسف تام للقصة. فماذا فعل محفوظ؟ لقد تجاوز مشهد الاغتصاب برمته! نعم، لقد حذف طوعا هذا المشهد، وترك القارئ يستنتج ما حدث من الأحداث اللاحقة له. هذا أديب واقعي يلقن البعض درسا في الأخلاق، وفي الألمعية الأدبية أيضا.

 

ضرورة أدبية:

البعض يصور الضرورة الروائية وكأنها ضرورة شعرية، قواعد لا يجوز كسرها. بينما هي في واقع الحال ضرورات تقديرية، والأديب الأريب يعرف كيف يطوّعها. أما الذي لا يعرف، فإما أن يتعلم، وإما أن يفكر جديات في تغيير مهنته إلى التصوير الفوتوغرافي.

لا يوجد شيء في القرآن الكريم تحت بند "غير صالح لمن هم دون الثامنة عشرة". بالله عليكم، هل يُحرج أحد من قراءة طفل سورة يوسف؟ هل يبحث أحد عن مصحف مجزّأ ليخفي هذه السورة عنه حتى لا يقرأها؟ اللهم لا، لأن رقي اللغة يتكلم عن الواقعة دون أن يهيج شهوة، أو يفتح العين على ما لا يجوز. سورة يوسف متطلب مسبق لأي أديب على المستوى اللغوي أو الفني الدرامي أو الأخلاقي الرسالي: عليكم بها إعرابا، وحفظا، وتفسيرا، وتأملا، وتعلمّا. سورة يوسف ضرورة لكل أديب.

 

عزيزي الروائي الصغير،

كشف الواقع المريض ليس بطولة. المجلات الفضائحية والصحف الصفراء تفعل ذلك طوال الوقت. أن تظهر الباطل باطلا، أن تبطل محاولاته لتجميل نفسه، تلك هي البطولة. وأن تظهر الحق حقا، تلك هي الكرامة والموهبة الأدبية. ما عدا ذلك مجرد رتع وركوس في الفتنة وإخلاد إلى الأرض.

مهمتك أديبا إعادة الاتزان للحياة، ووضع الأمور في نصابها السليم في عقول الناس وقلوبهم رغم أنف الواقع. لا أن تتحول إلى بوق للواقع وموظف في إدارة تسويقه!

تصوير حقارة النفس البشرية، وبذاءة أفعال البشر، وانحطاط المجتمع، وفساد السلطة، كل هذا إحياء للباطل، إلا إذا تمكنت من أن تخرج القارئ بحالة مقت لهذه الأوضاع العفنة. هنا، تكون أنتَ أنتَ!

 


[1] "والإِرادة المشيئة وأَصله الواو، كقولك راوده أَي أَراده على أَن يفعل كذا، إِلا أَن الواو سكنت فنقلت حركتها إِلى ما قبلها فانقلبت في الماضي أَلفاً وفي المستقبل ياء، وسقطت في المصدر لمجاورتها الأَلف الساكنة وعوّض منها الهاء في آخره." (لسان العرب)

 


 

نشرت في مجلة "البيان" الصادرة عن رابطة الأدباء الكويتيين، العدد 574، مايو 2018، من صفحة 71-78.