(وقت القراءة: 1 دقيقة)
كلا أعزائي، لم تصبني عدوى التنعيم والتليين التي تجتاح نطق كثير من المذيعات العربيات اللائي يهوين تشويه الأحرف. ولم أحول عبارة "شهر رمضان المعظم" إلى "شهر رمدان المعزم"، بل أنا أعني العبارة كما هي! اقرؤوا لتعرفوا ما أعني، ولكن أحذّركم، فالسطور الآتية تثقل القلب بالألم.


• رمدان
يمم عينيك شطر التلفاز في شهر رمضان لترى أعجوبة ثامنة من عجائب الدنيا. طوفان من البرامج الهوفاء الشوهاء، والمسلسلات التي تعج سخفا وعنفا. ما الذي يحدث يا ترى؟ أعلمُ أن البرامج في الأيام العادية ليست أفضل حالا من مثيلتها الرمضانية، لكن ما سر هذا القصف من القتاد والرماد وكأن الناس لا يشاهدون التلفاز إلا في رمضان؟
أكره نظرية المؤامرة وأفنيت سنوات وأنا أناظر وأحاور بعدم معقوليتها في كثير من الحالات، لكن هذه الحالة أعجمت لساني ووجداني، فيبدو أن بعض الشياطين تآمروا قرروا إلهاء الناس بهذه السخافات ليفوتوا فرصة الرحمة والمعفرة والعتق من النار عليهم. لكن الغريب هو أن الشياطين تصفد في رمضان وفق لكثير من الآراء الفقهية وهذا يترك لبنى البشر فرصة ليفرقوا بين هوى النفس ووسوسة الشيطان، فهل يعقل أن يكون كل هذا الفحش من عمل الأناسين وحدهم دون تدخل شيطاني؟ بعد التفكير، صرت أظن أن الشياطين كائنات لطيفة ووديعة تستحق أن نربيهما في المنازل بدلا من القطط والأرانب وعصافير الحب! فالشر الشيطاني يسيرٌ، ويزول بالتعوذ، أما الشر البشري فهو وليد التعوّد مع سبق الإصرار والترصد، وكيف ينفع معه التعوّذ؟
كنا نسمع عن مرض الرمد الربيعي وهو مرض يصيب العين، الآن صار هناك مرض جديد يصيب القلوب، الرمد الرمضاني! ومن هنا صار رمضاننا تلفزيونيا "رمدانا" للعقل والقلب. ونبرأ لله مما يفعله بعض بني قومنا من نسل آدم.

• المعزّم
أما "المعزّم" أعزائي فليست مشتقة من العزيمة بمعنى الهمة رغم أن رمضان هو موسم العزيمة والهمّة في العبادات والخيرات، بل مشتقة من العزائم بمعنى الدعوات والولائم باللهجة الكويتية. فرمضان لدينا شهر الشره والنهم، وهو أيضا شهر الزيارات والمجاملات. وإذا كنتم لا تصدقونني زوروا أي جمعية تعاونية أو مركز تسوق قبيل رمضان أو أثناءه لتروا ازدحاما وتدافعا يجعلكم تظنون أنكم في حضرة مجموعة من الحجيج.
في الحقيقة علي أن أعترف بغرامي بالحلويات الرمضانية التي لا تطل إلا مرة كل عام، لكن هذا لا يعني أن نحول رمضان إلى موسم للأكل وكأننا نمن على الله السويعات التي صمناها ونعوض عنها بأن نأكل ضعفها بل أضعافها مساء، ثم نشتكي من تراكم الدهون ونهرع إلى عيادات التجميل ومراكز التنحيف.
يؤلمني قلبي حين أرى الكثيرات يلهثن في رمضان ومعالم الإرهاق بادية على وجوههن ليس بسبب المحافظة على صلاة التراويح أو القيام أو ختم القرآن، بل بسبب "التهجد المطبخي"!
الأمر الغريب الآخر في رمضان هو تحويله إلى موسم للزيارات والمناسبات الاجتماعية والسهرات، ولا أدري ما بال الأحد عشر شهرا الباقية؟ إما إذا كنت ممن لا يستجيبون لدعوات "الغبقة" والإفطار والسحور أثناء رمضان مثلي، فستحل عليك اللعنة المجتمعية اللعناء ويقال أنك لا تستجيب للـ"توجيب" ولا تراعي وصال الآخرين وودهم لك. وأنصحك ببرود الأعصاب وأخذ الأمور ببساطة، صحيح أنك ستخسر ربع أو نصف معارفك، لكن هذا أفضل من أن تخسر نصف عقلك، خاصة إذا كنت امرأة حيث أن أحاديث النساء في رمضان شأنها شأن برامج التلفاز، تزيد فيها جرعة الغيبة والنميمة والتلهي بسير الآخرين. وفي ختام المجلس وبدل دعاء كفارة المجلس يقلن "سلينا صيامنا". مسكين هذا الصيام، ثم من قال أنه يريد أن يتسلى أصلا؟

• هكذا أقمنا الحجة على أنفسنا

فرض الله علينا الصيام لا تعذيبا ولا حرمانا، فإيذاء النفس منهي عنه، لكن فلسفة الصيام هي بأنه إذا كان المرء يقدر أن يمتنع عن الطعام والشراب الذين سيفني من دونهما، فإنه حتما قادر على أن يمتنع عما هو أدنى من ذلك كالكذب والنفاق وغياب الإتقان والإحسان. وها نحن نرفع الحجة على أنفسنا بصيامنا دون أن نعي.
رمضان شهر الهمم والعزائم، لا شهر الولائم. وشهر العبادات والخيرات، لا شهر المنكرات والموبقات. تعالوا نعظم شهرا ناله منا الكثير من الظلم، "ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب" (سورة الحج: 32)