(وقت القراءة: 1 دقيقة)

 

يفاجئني هذا الانطباع العام الفاشِي لدى الكثير من القراء، وبعض الكُتّاب أنّ العمل السَّرْدِيّ (الرواية والقصة القصيرة تحديدا) يجب أن يحوي قصة حبّ، سواء أكانت القصة الرئيسة للعمل، أو قصةً ناقلةً للقضية التي يودُّ الكاتب أن يتناولها.

وأنا هنا لست أُعادي الكتابة عن الحب، لكنّي أستغرب أن يكون الموضوع الأوحد، أو موضوعا يدس أنفه في كل قصة، وكأن عناصر القصة صارت: الشخصيات، والأحداث، والزمان والمكان، و ... وقصة حبيبين!

والسؤال هنا: من أين أتى هذا الانطباع الذي صار واقعًا بشكلٍ أو بآخر؟

 

زمن ما قبل السرد

حينما نرجع إلى الشعر الجاهلي، نجد أنّ القصيدة أيّا كان غرضها (مدح، هجاء، رثاء ... إلخ) تُفتتح في الغالب الأعمّ بأمرين؛ الغزل، أو البكاء على الأطلال، أو كليهما أحيانا. هذا كان العُرف الجمالِي والفنيّ آنذاك. وهذا مُبرَّر في ذلك العصر؛ حيث الترحال للبحث عن أفضل مرعى، وما يتبع ذلك من فراق حتمي يثير حالة من الشجن الدائم لدى العربيّ الذي يشعر بأنّ الفراق قدَرُه. لذا، فإنّ البكاء على الأطلال شعور وُجودي لدى أيّ عربي آنذاك، شعور يستسيغه كلّ فرد من الجمهور الذي سيسمع القصيدة، لأنّه ذو معنى واقعيّ وشخصيّ بالنسبة له. وكذلك الغزل، فهو كثيرا ما يرتبط بفراق الحبيبة الراحلة "ودّعْ هريرة إنّ الركب مرتحل ..."، "لخولة أطلال ببرقة ثهمد"، "يا دار عبلة بالجواء تكلمي ...". وحتى وإن لم يرتبط بالفراق تحديدا، فالحب في الوجدان العربي مرتبط باللوعة والسهر والعذاب، وكل هذه المعاني تناسب طبيعة العربي الملتاع ببيئة قاسية. فالغزل في الشعر الجاهلي ليس طقسا احتفاليا، وقليلا ما يثير الحب مشاعر مبهجة تبثّ في روح الشاعر البهجة والحياة، إلا في بعض القصائد كقصيدة عنترة الذي يشجعه تذكّر عبلة على القتال:
فوددتُ تقبيلَ السيوفِ لأنها **** لمعت كبارقِ ثغرِكِ المتبسّمِ

لهذا نجد أنّ قصيدة مثل "البُردة" التي قالها كعب بن زهير -رضي الله عنه- أمام الرسول –عليه الصلاة والسلام- قصيدة جاهلية بامتياز! فهي تبدأ بذكر الحبيبة سعاد (الوهميّة بطبيعة الحال) التي بانت وابتعدت:

بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ *** مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُفدَ مَكبولُ

وقد يستغرب غير المُطّلع على تاريخ الأدب العربيّ أن يقول رجل في أول يوم لإسلامه قصيدة يمتدح فيها الرسول عليه الصلاة والسلام طالبا منه العفو، والعدول عن إهدار دمه، ويبدأها بمديح حبيبته سعاد والتغزّل فيها. وليس هذا وحسب، فإذا أجرينا "تحليل محتوى" سريع، نجد أنّ القصيدة المكونة من 59 بيتا، خصص منها 16 بيتا لمديح الحبيبة الراحلة سعاد. ثم انتقل الشاعر –رضي الله عنه- لوصف الناقة التي رحلت بسعاد إلى أرض بعيدة. ولم يبدأ بذكر الرسول –عليه الصلاة والسلام- أو الإسلام إلا في البيت 39 من القصيدة. أي أن ثلثا القصيدة ذهبا لموضوع آخر غير الغرض الذي نظمت القصيدة من أجله!

ونجد كعبا -رضي الله عنه- يصف سعاد قائلا:

هَيفاءُ مُقبِلَةً عَجزاءُ مُدبِرَةً *** لا يُشتَكى قِصَرٌ مِنها وَلا طولُ

وهذا وصف أقل ما يقال عنه إنّه غير لائق على الأقل في حضرة الرسول عليه الصلاة والسلام. والسؤال هنا، لِمَ لَمْ ينهَ الرسول عليه الصلاة والسلام أو الصحابة كعبًا رضي الله عنه عن هذا البيت مثلا؟

لأنّ هذه قصيدة جاهلية، نظمها ناظمها وهو جديد على الإسلام وأحكامه. شاعر غلبت عليه التقاليد الفنية لبيئته. بعد زمن من إسلامه رضي الله عنه، نجد أنّ قصائد كعب بن زهير رضي الله عنه تغيّرت وانسلخت من جِلْدها الجاهلي وأعرافه الفنيّة.

إذا، القاعدة أنّ تغيّر بيئة الشاعر، يغير طريقة تعبيره عن المعنى. ولا يخفى على القارئ الكريم القصة الطريفة للشاعر الذي أراد أن يمتدح الخليفة بتعابير من بيئته الشخصية، فقال:
أَنتَ كَالكَلبِ في حِفاظِكَ لِلوُد *** وَكَالتَيسِ في قِراعِ الخُطوبِ
أدرك الخليفة أنه أراد المدح، وإن جاءت التعابير قاست ومسيئة في ظاهرها. فأمر الخليفة أن تخصص للشاعر دار قرب دجلة. وبعد فترة سُئل عن آخر ما قال من شعر، فكان:

عُيونُ المَها بَينَ الرصافَةِ وَالجِسرِ *** جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدرِي

فلننظر كيف أن تغيّر بيئة الشاعر، غير تعابيره، وغير اهتماماته أيضا وأفكاره.

ولهذا نجد أنّ البوصيري (توفي آخر القرن الميلادي الثالث عشر) حينما كتب "البردة"، لم يبدأها لا بغزل أو بغيره، بل دخل في الموضوع مباشرة:

مولاي صلِّ وسلِّم دائمًا أبدا *** على حبيبكِ خيرِ الخَلْقِ كُلّهمِ

وحتى حينما نظم أحمد شوقي (توفي في الثلاثينات من القرن العشرين) نهج البردة، اختار عمدا وقصدا أن يبدأها بالغزل، ليس لأن هذا تقليد عصره، بل اتّباعا وتناصا مع بردة كعب بن زهير رضي الله عنه. فنجد شوقي يقول:

ريمٌ   عَلى   القاعِ   بَينَ   البانِ   وَالعَلَمِ   ***   أَحَلَّ  سَفكَ   دَمي   في   الأَشهُرِ   الحُرُمِ

والحاصل أنّه بتغير العصور، تغيّرَ الشعر، وصار الشاعر حينما يتغزل، فإنه يتغزل لغرض الغزل وحسب. ولا يستخدمه مقدمةً، أو تمهيدًا، أو أداةً لغرض آخر. لقد تحرر الشاعر من السطوة الوجدانية القاسية في عصر الجاهلية، ما عاد الهم الوجودي للشاعر شجون التنقل والفراق، بل هموم أخرى. فانتفى غرض الابتداء بالغزل أو وصف الأطلال. وهذا لا يعني أن الغزل اختفى من الشعر العربي، بل ظل حاضرا، لكنه كان بشكل عام غزلا لغرض الغزل، لا وسيلة يتوصل بها لغرض آخر، أو تمهيد لازم يفتتح به كل موضوع.

زمن ما قبل الرواية

كان الشعر ديوان العرب. أمّا اليوم، فقد صارت الغلبة للسرد وتحديدا الرواية التي صارت "سجلّ العرب" وشاغلتهم. لكن لو عدنا إلى عصور ما قبل الرواية (على اعتبار أن الرواية صنف أدبي حديث نسبيا على العرب) ودرسنا بعض النصوص العربية الكلاسيكية التي تعد سردية، لكنها ليست موافقة لشروط الرواية بشكلها الحديث. نصوص مثل قصة "حي بن يقظان" (التي ألهمت دانييل ديفو روايته الشهرة "روبنسن كروزو" والتي يعتبرها بعض مؤرخي الأدب أول رواية باللغة الإنكليزية)، أو "كليلة ودمنة" (رغم أصله غير العربي)، أو "ألف ليلة وليلة" (رغم أن مؤلفه غير معروف)، أو "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري (رغم كثرة محتواها الشعري)، نجد أن الحبّ ليس قضية رئيسة أو لازمة متكررة كما هو الحاصل في القصص والروايات التي نقرأها اليوم، والتي تعاني من فائض عشقيّ هائل.

بين حمار الشعر وحمار السرد!

إذا أنت لم تعشق ولم تَدْرِ ما الهوى *** فقم واعتلف تِبْنا فأنتَ حمار

يزعم الشاعر أنّ الحب ليس من صفات الحمير -أجلكم الله-، وأنّه نشاط بشري صرف. ولا أظن أنّه سبق لأحد أنْ أجرى دراسة على الحمير أو غيرها لتقصي سلوكها العاطفي، لذا تظل المسألة معلّقة لحين تصدي أحد العلماء لها.

وبالحديث عن الحمير أجلكم الله، يقال "الرَّجَز حمار الشِّعر"! هذا لأنّه أسهل بحور الشعر، ويمكن أن يحمل ما لا يحمل غيره، ويمكن لقليلي الموهبة امتطاء هذا البحر السائغ. أما في عالم السرد، فيمكنني أن أقول: "الحب حمار السرد"! صار الحبّ أداة يتوسل بها الروائي أو القاص، كما يتوسل الشاعر المتواضع ببحر الرجز.

يمكن للراصد أن يلاحظ أن ثمّة قصة حبّ مدسوسة في الغالبية الساحقة الماحقة للقصص والروايات، سواء أكانت هي القصة الرئيسة، أو كانت عكّازا لفكرة أخرى. ومن الواضح للأسف أن الكتاب –المتمرّسين والمبتدئين على حد سواء- يقعون في أحضان هذه الوسيلة، حتى صار حالهم حال الشعراء في عصر الجاهلية الذين استخدموا الغزل والتفجُّع على الأطلال لافتتاح قصائدهم. هذا مع الفارق الكبير، فالجاهلي كان يفتتح القصيدة بها ثم ينتقل لغرضه، أي يمكن حذف هذه الأبيات بسهولة والانتقال إلى اللب. وكان الشاعر الجاهلي يركّز على الحب المرتبط بالفراق تحديدا، كان الحبّ لديه همُّ صغير نابع من همٍّ أكبر وهو الترحّل وما يطرحه من حالة شَجَن وجوديّ.

صحيح أنّ الكاتب المُجِيد لديه أدوات أخرى مثل اللغة والفكرة. لكن المقلق في الأمر أنّه يمكن لقليل الموهبة أن يكتب شيئا وينجح نجاحا ساحقا فقط لأن ما كتبه قصة حب. لماذا ينجح؟ لا لشيء سوى لطبيعة الحب الخاصة. الحب، القضية السائغة الشائعة التي تلقى قبولا من الجميع لأنها تضرب على أوتار مشدودة. لأنّ جزءا من الإنسان مفطور على العواطف بشكل عام، وعلى الشهوة تحديدا. ومن السهل أن تخاطب شيئا دنيَّا في الإنسان، من أن تخاطب شيئا ساميا لأنك بهذا تقلل من الجمهور الذي سيستسيغ ما تقول. الأمر كمن يبيع القمح، ويبيع الـ"كينوا" (نوع من الحبوب تزرع في أمريكا الجنوبية)، لا مقارنة بين شعبية الاثنين وقبولهما.

التفسير الجذريّ

إذًا، حتى الكاتب غير المتمكن، يمكنه أن يأتي بنص سردي لا بأس به إذا ضمّنه قصة حب، ويمكنه أن يأتي بنص رائع إذا كان النص بأكمله قصة حب. هذا النجاح ليس عائدا إلى موهبة الكاتب، بل إلى سواغ الموضوع الذي يتناوله، موضوع يعجب العامة، موضوع شعبي، والفضل في هذا برأيي للسينما العربية، وللأغانيّ. فعقود طويلة مرت على الإنسان العربي، تعرض فيها لعمليات برمجة مستمرة، عمليات غسيل دماغ، بحيث صار لا يستسيغ قصة دون أن تضمن شيئا متعلقا بحب بين حبيبين. وانسحب هذا بدوره على الذائقة العربية في السرد، فصار كل من القارئ والكاتب على حد سواء عبيدا لهذه الذائقة المبرمجة.

وهذا الاعتماد الإزْمَانيّ على الحب في الأعمال السردية خطير، لأنه يبرمج القارئ ويبرمج الإنسان أكثر وأكثر على نمط تفكير معين، حتى يصير لا يستسيغ أي عمل دون قصة عاطفية ترطّبه وتنزل به إلى مستوى أرضيّ وبسيط. ثم بعد ذلك لا تستسيغ الحياة دون قصة حب ما. وتجد الناس يبحثون عن الحب الذي يقرؤون عنه ثم لا يجدون، فيكتئبون، ثم يتسلون بمشاهدة المسلسلات التركية، ثم تنفطر قلوبهم، ثم يتسخّطون على واقعهم. شكرا للأدب، شكرا للدراما التي خلقت أجيالا من البشر غير الراضين. قصص الحب التي ترد في الأدب، وحتى في التاريخ فيها مبالغة بطبيعة الحال، وتركيز على بؤر معين من العلاقة وتضخيمها لأعراض السرد ولأغراض الحبكة، وهذا ما لا يحدث في الواقع. ولنلاحظ أن قصص الحب الحقيقية التي خلدت كلها كانت قصصا لحب مستحيل بشكل أو بآخر، حب تترصّده العقبات: عنترة وعبلة، قيس وليلى، ليلى الأخيلة وتوبة، قيس بن ذريح ولبنى، جميل وبثينة، كثيّر وعزة. كلهم لم يتزوجوا، ولو تزوجوا، لما عادت القصة مُفارِقة للواقع ومضخّمة وتستحق الكتابة عنها اللهم إلا قيس بن ذُريح ولبنى الذين تزوجا، ثم فُرّقا، ثم تزوج كل منهما بشخص آخر، ثم تزوجا مجددا. والنتيجة لهذا القصف من قصص الحب المستحيل؟ المزيد من البشر المحبطين عاطفيا الذين لم يجدوا حبا مستحيلا أسطوريا بطوليا يخلده التاريخ. هذا فضلا عن إحباطاتنا الحضارية الأخرى. جزاكم الله كل خير! خلاصة القول، أن هذا الهوس الحبّي يجعل الناس يرتدون غِمَامات مثل التي يرتديها الحصان حتى لا يرى سوى ما يراد له أن يراه. كم من المتاعيس صنعت أيها الحب الأدبي؟!

وإذا خلت رواية ما من قصة حب، يبدأ القراء تلقائيا بالبحث عن علاقة ما بين الشخصية الفلانية وتلك، لعل قصة حب ما تبرز في فصل من فصول الرواية! مرة أخرى، بُرمج القارئ على توقعات معينة، والأخطر أن ينقل هذه البرمجة إلى حياته اليومية، فيغدو آلة لسوء الظن والنميمة.

"معادا أو معارا"

الأمر الآخر الخطر فيما يتعلق بالاعتماد على الحب في الأعمال السردية، هو أن فرصة الكاتب أن يأتي بقصة حب أصيلة ومدهشة فرصة قليلة بسبب أنه أشبع معالجة وتداولا وضربا وركلا! وهذا أمر يجب أخذه بعين الاعتبار لمن يكتب لأن هدفه أن يأتي "بما لم تأتِ به الأوائل"، لا من يكتب ولسان حاله يقول:
وما أرانا نقولُ إلا مُعارًا *** ومُعادًا من قولِنا مَكْرُورا

أتفهم هذا الاحتشاد الغرامي في السينما، فالسينما للترفيه. لكن الرواية ليست للترفيه، بل للترقية! إذا كانت الدراما أجيرة لدى ذوق المشاهد، فالأدب عليه أن يكون سيدا، ويتعلم كيف يكون، وإلا سيكون مجرّد أجير مرتزق تتحكّم به الجماهير بذوقها المُبرمج على الاتضاع.

 

نشرت في مجلة "البيان" الصادرة عن رابطة الأدباء الكويتيين، العدد 570، يناير 2018، صفحة 29-34.

___________________________

تصويب: نبهني أحد الزملاء بعد نشر المقالة أنّ قصيدة البوصيري مُفتتحة بأبيات متعلقة بالحب. وقد غلب عليّ حفظي للبردة منشدةً، وهي تحذف هذه الأبيات غالبا. فوجب التنويه والتصحيح.