(وقت القراءة: 1 دقيقة)

س: ما هي أفضل طريقة لتعريف مصطلح معقد مثل التناص؟

ج: الاطلاع على مثال عمليّ عليه.

 

لم يكن لي ضلع في هذا الاكتشاف، كان الأمر قدرا سعيدا أهداني الله إياه. حدث أن قرأت رواية الدكتور غازي القصيبي "سبعة"، ثم وبعدها بفترة قصيرة، قرأت في أحد الكتب إشارة إلى قصة الجارية "تودّد" التي وردت في ألف ليلة وليلة، فشعرت بأمر مألوف في القصة. هرعت إلى "ألف ليلة وليلة" أقرأ ما قالته شهرزاد عن حكاية "تودد" الجارية الألمعية، وأقارنه بـ"جلنار" الشخصية المركزية في رواية "سبعة"، فخرجت بتشخيص قاطع: هذه حالة تناص ناجحة، تناص استعار الهيكل العام وحسب، ووضع بصمته الخاصة على كل صفحات العمل، تناص له تفاصيل مغايرة، ونهاية تكاد تكون مناقضة للنص الأقدم.

 

 

تودد الجارية الموسوعية

وردت حكاية "تَودُّد" بين الليلة 429 إلى الليلة 455 من ليالي ألف ليلة وليلة. وتحكي عن رجل شديد الثراء بدّد كل ما ورثه ما خلا جارية اسمها تودّد، وهي التي اقترحت على سيّدها أن يبيعها على الخليفة هارون الرشيد، ويطلب مبلغا كبيرا مقابلا لها. وحين استكثر الخليفة المبلغ عليها، طلبت منه أن يختبرها ليعرف أنه لا نظير لها. ويفعل الخليفة ذلك.

يُستدعى لمناظرة تودد سبعة أشخاص من تخصصات مختلفة تشمل مناحي الحياة كلها آنذاك، وهي الأمور التي ادعت تودد أنها تحسنها. فلم تكن فقط جارية خارقة الجمال، بل كان لها اطلاع موسوعي وذاكرة فولاذية.

اجتازت توكل امتحانات كل من:

1. الفقيه، الذي أجابت على أسئلته بكل اقتدار، فسلّم أمام الخليفة أنها أعلم منه. لكن تودد لم تكتف بهذا، بل قلبت الطاولة عليه، وجعلت تسأله، حتى وصلت إلى مسألة لم يعرف جوابها. وكان ثمن إعلانها للتفسير أن ينزع ثيابه، فبادر الخليفة قائلا "فسّريها وأنا أنزع لك ما عليه من الثياب"، وحدث هذا فعلا! وحين تصدى لها رجل آخر من الحضور، فعلت به الأمر نفسه، فأقرّ لها بالتفوق.

2. العالم بالقرآن الكريم وتفسيره وقراءاته.

3. الطبيب.

4. المنجّم.

5. الفيلسوف.

6. النظّام المتكلم في كل علم وفن.

7. معلّم الشطرنج، ولاعب النرد، كما أن تودد عزفت على العود، فأحسنت العزف (فنون الترفيه).

وكل هؤلاء فعلت بهم ما فعلته بأولهم! ومن يقرأ القصة يجد فيها طرافة وثراء بالمعلومات، حتى أنه يمكن بناء برنامج تلفزيوني كامل بناء على المبارزات المعلوماتية بين تودد وبين الرجال.

 
جلنار الإعلامية الفاتنة

في رواية "سبعة" للدكتور غازي القصيبي نجد جلنار، الفاتنة مقدمة برنامج "عيون العالم عليك"، تتحدى سبعة رجال من مشاهير  دولة "عربستان x" في أن يحكي كل منهم عن الأسابيع الأكثر إثارة في حياته، ومن ينجح يفوز بها ... بجلنار!

نجد هنا مهمة الحكي اللصيقة بشهرزاد قد انتقلت لهؤلاء السبعة: الشاعر،  والفيلسوف، والصحافي، والطبيب النفساني، والفلكي الروحاني، ورجل الأعمال، والسياسي.  كلهم يتنافسون طمعا في جلنار.

يخصص فصل من الرواية لكل من السبعة يحكي فيه عن أحداث من حياته. ونجد أن سرد القصيبي ساخر مرح لا يخلو من كشف لمثالب المجتمع العربي كعادة القصيبي. فهناك الشاعر السارق لإبداع الآخرين ومثله الفيلسوف، والصحافي المبتز، والطبيب النفساني المدمن، والفلكي الدجال، والتاجر المخادع، والسياسي الفاسد.

ونجد جلنار هنا –بعكس تودد- هي من تضع الرجال في موضع الاختبار، وهي المقيّم، وهي –للأسف- الجائزة! وإن كانت تودد قد عرّت متحديها، فإن  القصيبي قد اختار أن يعرّي الرجال السبعة ويعرى معهم المجتمعات العربية عن طريق المذكّرات التي سردها كل منهم عن نفسه.

 
خاتمة تودد

نجد أن تودد في النهاية تنتصر، ويُقر لها الجميع بالتفوق. ويقرر الخليفة هارون الرشيد أن يمنح صاحبها مئة ألف دينار (وهو عشرة أضعاف المبلغ الذي طلبه ثمنا لها)، ثم يسأل تودد عما تطلب، فتطلب أن تعود لسيدها. فيحقق لها ذلك، ويعطيها خمسة آلاف درهم لها، ويصير سيدها نديما للرشيد.

ورغم طوباوية النهاية السعيدة، بانتصار تودد، إلا أنه انتصار ذكوري. امرأة موسوعية مثل تودد تختار في النهاية مصيرا مترعا بالذل الذي يتزيا بثياب الوفاء والإيثار. من بلغ كل هذا العلم لا يرضى العبودية لغير الله، وأقلّ ما كان يمكنها أن تطلبه كان العتق. والمشكلة أن سيدها لم يفكر أن يشكرها على صنيعها بأن يعتقها، كان كمن لديه أعجوبة يتكسب من ورائها؛ قزم بهلوان، أو ببغاء ناطق!

لماذا لم تستعمل تودد كل هذه المواهب من قبل كي تفتدي نفسها بطريقة أو بأخرى، بل ظلت جارية مستكينة لم تكشف عن مواهبها إلا كي تبيع نفسها لتنقذ سيدها من الفقر؟ كل هذا يقدم لنا نموذجا للمرأة الأعجوبة، لكن المكبّلة بالعجز والاستكانة.

هل تجتمع المعرفة الموسوعية مع الخضوع؟ يمكننا أن نجيب عن هذا إذا سألنا كيف صارت تودد هكذا؟ ومن أين حازت هذه المعرفة؟ كان للجواري فرصة لمخالطة مجالس مالكيهن، وهي وإن كان فيها لهو وطرب وعبث، فإن فيها ما فيها من نقاشات. ويبدو أن سيدها الثري كان له مجلس يرتاده العلماء، فتمكنت تودد من نهل المعرفة. لكن علينا أن نعي أن تودد كانت حفّاظة ماهرة، كان لديها المعرفة لا العلم بمعناه الأوسع، كانت قرصا صلبا هائلا بسعة 10 تيرابايت بمصطلحاتنا الحديثة! وهذا النموذج خطر، فهو وإن بدا مشرّفا، إن هو إلا تكريس للاسترقاق وبالذات الفكري والنفسي. 

 
خاتمة جلنار

في النهاية، تقرر جلنار أن تدعو السبعة إلى جزيرة "ميدوسا" اليونانية، ولا نعلم ما حدث سوى أن السبعة قضوا غرقا، في حين قضت جلنار على الشاطئ. وفي حين قامت تودد بالتسبب في تجريد السبعة من ثيابهم، كانت جلنار هي من وُجدت ميتة بلا ثياب.

جلنار، المرأة الذكية المراوغة، الإعلامية التي لا تستطيع أن تنفك من إسار الجسد. هي بالنسبة للإعلام وللسبعة وربما حتى للروائي مجرد جسد. جلنار مثل تودد جارية مملوكة، جارية للإعلام والمجتمع والوجدان الذكوري الشهواني.

 


مقارنة/مقاربة

في حكاية جلنار تبدو المرأة مبادِرة تتحكم بالسبعة وتختبرهم وتلوّعهم بالركض خلفها طمعا فيها، في حين أن تودد توضع موضع الاختبار والتشكيك. إلا أننا نجد في تودد نموذجا تقدّميا إذا ما قارناه بالنموذج الذي تقدمه جلنار. وإن ندري هل كان القصيبي يبشر بهذا ويستحسن، أم ينذر، أم يصف وحسب.

وحينما نقارن بين النهايتين نجد أن تودد –بشكل أو بآخر- أفضل حالا من جلنار! فتودد أقر لها الرجال بالتفوق المعرفي عليهم، في حين أقر السبعة لجلنار بالفتنة والغواية لا غير. كيف جاء هذا الفارق رغم أننا نفترض أن امرأة اليوم أفضل حالا من امرأة ذاك الزمان؟  الإجابة هي الراوي. فقصة تودد ترويها شهرزاد (أو هكذا نفترض، رغم تشكيك البعض بأنها شخصية وهمية لجمع شتات قصص تراثية)، في حين يروي "سبعة" رجل هو الدكتور غازي القصيبي. فكان من الطبيعي أن تتحيز شهرزاد للمرأة فتظهرها ظافرة، رغم أنها لم توفق في تحرير تودد من قيود المجتمع، فأبقت على عبوديتها، وحصرتها في المعرفة النقلية دون المعرفة التي تحرر صاحبها ربما لأن شهرزاد نفسها لم تصل إلى وعي يمكنها من الخوض في هذه الفكرة من حيث المبدأ. أما القصيبي، فيظهر انتصاره لما وقر في الوجدان الذكوري، فجلنار الدمية الإعلامية الحسناء، هي الجسد الذي يفاز به نظير التحدي. تنتزع تودد إكبار السبعة، في حين لا تنال جلنار من السبعة سوى نظراتهم الساغبة.

اللافت أيضا أن شهرزاد اختارت أن ينتهي المطاف بالرجال السبعة مجردين من ثيابهم، في دلالة رمزية ليس على الانتصار وحسب، بل على كشف/تعرية جهلهم مقارنة بها. واختار القصيبي ذات الأمر، إلا أن جلنار هي التي وجدت على الشاطئ بلا ثياب في دلالة وكشف على مركزية الجسد في نظرة الرجال والمجتمع للمرأة.

نلاحظ أنه في حكاية القصيبي غاب الخليفة، وغاب السيد كشخصيتين، إلا أنهم كانوا حاضرين كياناتٍ ضاغطة في صورة التوقعات المجتمعية، التيار السائد، الصورة النمطية للمرأة. كما نلاحظ أن القصيبي تقاطع مع الحكاية الأصلية في شخصيات الطبيب والمنجّم والفيلسوف والناظم (الشاعر)، إلا أنه استبدل بالفقيه والعالم بالقرآن الكريم ولاعبي الشطرنج والنرد كلا من الصحافي ورجل الأعمال والسياسي.

إذا، هذا كان التناص بين الحكايتين وبين الشخصيتين. سبعة رجال، وامرأة، وتحدٍ، وجائزة.

نهايتان متباينتان؛ تعيش تودد، وتموت جلنار.

نهايتان متشابهتان؛ ترسف تودد في نير العبودية، وكذلك جلنار تموت أسيرة الجسد.

 

نُشرت هذه المقالة في مجلة البيان الصادرة عن رابطة الأدباء الكويتيين، العدد 531، أكتوبر 2014، من صفحة 83 إلى صفحة 86.