(وقت القراءة: 1 دقيقة)

ثار ما ثار مؤخرا حول الفأر"ميكي". وبغض النظر عن تفاصيل ما قيل، وعن سوء النقل والتأجيج الذين وقعت فيهما بعض وسائل الإعلام، استوقفني واستثارني نبرة الاستهزاء والتندر التي وجهها البعض لكلمة "فويسقة"؛ فأخذوا يضحكون ويستنكرون وصف كائن يرونه خفيف الظل بها رغم أنها الكلمة التي أطلقها الصادق المصدوق -صلوات ربي وسلامه عليه- لوصف الفئران. لا أعرف ما سر غضبة واستنفار الكثيرين لـ”ميكي” هذا حتى أنهم على استعداد للاستهزاء بحديث شريف من أجل سواد عيني ميكي، أو بعبارة أدق لسواد أذنيه. هل يؤمنون مثلا بالخزعبلات الصينية التي ترى أن عام 2008 هو عام الفأر فقرروا، الانتصار له؟ على أي حال، هلموا نسبر أغوار التاريخ والتراث واللغة لنتعرف على هذه الكائنات ونحكم حينها على الأمر بعقولنا لا بقلوبنا.

 


أيا بني قومي، هل نسيتم سد مأرب العتيد؟ هل نسيتم أن أجدادنا نسبوا تآكله وسقوطه إلى جُرذان شَرِهَة شريرة أخذت تنخر فيه وتحفر بكل ما أوتيت من أسنان وأظفار حتى انهار، وانهار معه الكثير الكثير؟

أما سمعتم عن حكاية "زمّار هاميلن" The Pied Piper of Hamelin؟ ذاك الذي زار بلدة "هاميلن" في ألمانيا فوجد الجرذان غمرتها من كل حدب وعاثت فيها فسادا، فعاهده أهلها أن يغمروه بالخيرات إن هو خلصهم منها. فعزف الزمّار على الناي آخذًا جيش الجرذان العرمرم إلى النهر مغرقا إياهم. بيد أنه حين عاد صعق بتنصل أهل القرية من وعدهم، وكيف لا وقد عاشروا الجرذان زمنا؟ لكن يبدو أنه هو الآخر لم يسلم أيضا من عدوى اللؤم من الجرذان التي رافقته في الطريق إلى النهر، فعزف على الناي مجددا وهذه المرة أخذ معه أطفال القرية إلى كهف بعيد، ولم يرهم أحد منذئذ. وهذا مصير من يعاشر الفويسقات.

وإن كان في أنفسكم شك، وترون أن ما سبق مجرد حوادث فردية لفصيلة عدوانية وهي الجرذان، وأن الفئران أودع وألطف، اسألوا الطفلة "كلارا" في قصّة "كسارة البندق" عن زعيم الفئران وجيشه، اسألوها هن الفزع والخراب. اسألوها كيف ضربته بحذائها -وهي طفلة لا حول لها ولا قوة- فجاء الأمير الظاهر في شكل كسارة البندق ليجهز عليه ويخلص الطفولة من شره. لم عساها تفعل ذلك إلا لأنها أدركت بفطرتها السليمة -التي لم تلوثها الإنتاجات التلفزيونية- أن هذه كائنات بغيضة مقبوحة.

بالله عليكم، منذ متى كانت الفئران كائنات لطيفة أو نظيفة تربى وتحول إلى دمى وثيرة يحتضنها الأطفال في فُرُشهم؟ أرجو ألا تتهموني بمعاداة الفئرانية (على وزن معاداة السامية) وأرجو أيضا ألا تتهموني بقلة الخيال وانعدام تقدير فلسفة الفن وتحديدا الرسوم المتحركة، لكن وبكل بساطة لا أستطيع أن أستسيغ "ميكي" هذا. صحيح أنه من أوائل الشخصيات الكارتونية التي رأيتها في طفولتي، هو وابن جلدته "جيري" الفأر المكار، ويفترض أن يكونا جزءا من اللاشعور لدي، ويفترض أن يكون دماغي قد غُسل لكثرة ما رأيتهما، لكن هناك صوت ما، صوت صادق وعاقل يقول لي أن في الأمر سوءا، وأن هذه الكائنات وإن حولت إلى شخصيات تقفز وترقص وتمزح وتقهقه، لا تزال في الواقع مجرد فئران، بل وربما جرذان سمان نهِمة. فكم من زروع أتلفت،  وكم من ممتلكات قضمت، وكم من أمراض نقلت. ذاكرة البشر ضعيفة حقا، هل نسيتم ما كان ينقل "الموت الأسود" والطاعون؟ هل إذا ما تقدم الطب نسينا الناقل الرسمي للموت، فحولناه إلى كائن وديع تُعلق صوره على الجدران وفي سلاسل المفاتيح؟ يبدو أننا بحاجة ماسّة إلى دروس تقوية في تاريخ الطب!

أما لغويا، فجرب أن تقول لمتكلم باللغة الإنكليزية بأنه Rat أو جُرَذ وتحمل ما سيأتيك منه؛ فالكلمة تستخدم لوصف الخائن أو الواشي. أما بالعربية الفصحى فالجُرَذ (وهو ينطق بضم الجيم وفتح الراء) رمز القذارة والتدمير، وأما الفأر فجبان رعديد وما أرى ظنَّ البعض أنه محب للجبنة إلا من الجبن الذي يسري في أوصاله. وبالمناسبة، فإنّ كلمة فأرة في اللغة العربية مفرد وتطلق على المذكر والمؤنث كقولنا تمرة وجمعها تمر، ويجوز أيضا أن يذكّر الفأر بحذف التاء المربوطة. وأرجوكم، لا تجعلوا تسمية أدوات التأشير الحاسوبية بـ"الفأرة" أو "الماوس" شفيعا لهذه الكائنات، فالجيل الجديد منها صار لا سلكيا ولا ذيل له، لذا لا داعي للتشبث بهذه التسمية.

لا تدعوا الصور المزركشة تغسل أدمغتكم، فكلنا نعرف أن القطط من أنظف الحيوانات على الأرض وربما ألطفها، وأن العكس هو الصحيح  بشأن الفئران. لكن انظروا كيف قلب "توم وجيري" طاولة المفاهيم رأسا على عقب. فالفأر "جيري" هو الذكي السموح الطيب، أما "توم" القط فشرير وفوضوي وغبي. كل هذا رغم أن التاريخ يشهد عرفانا للقطط التي تعد شركة تنظيف مجانية وحارسا أمينا على ممتلكات البشر من القوارض المستقذرة. لله درها عصا الإعلام هذه، ويا لمقدرتها على إلباس الباطل ثياب الحق إن شاءت.

وبما أن الشيء بالشيء يذكر، ما رأيكم بـ "بيغلت" Piglet الخنزير الوردي الصغير صديق الدب "ويني"؟ وماذا عن "بومبا" الخنزير البري رفيق "تيمون"؟ هل ترون أنهما أيضا كائنان لطيفان لأنهما يرقصان ويتقافزان على الشاشات مثل "ميكي"؟ الغريب أن فئران التجارب تسمى باللغة الإنكليزية Guinea Pigs أو "خنازير غينيا”. وبغض النظر عن سبب التسمية، أحسب أن القرابة بين الفئران والخنازير -على المستوى النفسي لكليهما على الأقل- ليست ببعيدة.